كتاب محاسبه الحكام 7
محاسبة الحكام فرض
فمحاسبة الحاكم إذاً فرض على المسلمين، ولا يجوز أن توجد في ذلك أدنى شبهة بعد الأدلة القطعية آنفة الذكر، من القرآن والسنة المتواترة، التي يكفر منكرها، ويخرج من الإسلام بجحدها. فالمحاسبة واجبة قطعاً ولو أدى ذلك إلى القتال، لأن الإسلام دعا إلى حمل السلاح دفاعاً عن سيادة الشرع في الحياة السياسية، أي لمنع ظهور الكفر البواح، وتحول الدار إلى دار كفر. فجهاد الحكام الظلمة ليكفوا عن ظلمهم واجب، بل إن «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» لأن الجور ظلم حرمه الشرع، وكل حرام يزال، ولا يسكت عنه، خصوصاً إذا كان هذا الحرام هو إظهارالكفر البواح، باستبدال الشريعة الإسلامية بغيرها من شرائع الكفر، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وتولي الكفار وقتال المسلمين تحت رايتهم، كما فعل ويفعل حكام المسلمين اليوم، وفي مقدمته آل سعود، وحكام باكستان، وتحالف الشمال في أفغانستان، وغيرهم، أخزاهم الله، وأبعدهم، ولعنهم.
ولما كان الحاكم هو الذى يتولى تطبيق الإسلام أو عدم تطبيقه، كان هو موضوع المحاسبة، والمسلمون الذين ينصبونه حاكماً هم الذين يحاسبونه، وكذلك يكون الحال، من باب أولى، فيما إذا كان قد أخذ الحكم عنوة، دون أن ينصبه المسلمون، كما لو إقامه العدو، أو نصب نفسه حاكماً عليهم بالقوة، ففى حال ظلمه، أو فسقه، عليهم أن يغيروا عليه باليد إن استطاعوا، وإذا لم يستطيعوا فليغيروا عليه باللسان، وإلا فبالقلب، لقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». أما فى حال كفره بنفسه، أو حكمه بنظام الكفر، فالتغيير يكون بقوة السلاح، لأنه يحرم على المسلمين حينئذ أن يحكمهم كافر، أو أن يحكمهم نظام الكفر، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}، وحتى فى حالة حكمه بغير ما أنزل الله مع اعتقاد بأن الإسلام هو الأصلح نظاماً للحياة. في هذه الحالة وغيرها، أي في جميع الأحوال، لا تجوز موالاتهم، لأنه أقل ما يقال فيهم أنهم أهل لهذه الألقاب القبيحة: كافرون ظالمون فاسقون، بالدلالة القاطعة لآيات الحكم بغير ما أنزل الله، وبإجماع الأمة المتيقَّن، الذي يكفر منكره، والله سبحانه وتعالى ينهى عن موالاة الظالمين والركون إليهم والاعتماد عليهم، قال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.
وهو حينما يحكم بغير ما أنزل الله ــ بغض النظر عن اعتقاده ــ يكون محاداً لله، عاصياً له، ويكون ظالماً، فاسقاً، كافراً - بغض النظر عن كون كفره مخرجاً من الملة، وهو الحق الذي دلَّت عليه الأدلة كما أشبعنا بحثه في «كتاب التوحيد» - فلا تجوز موالاته ولا التودد إليه، وإلا لا يكون الموالى له المتودد إليه مؤمناً، لأن الله تعالى يقول: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضى الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، إلا أن حزب الله هم المفلحون}.
وهو حينما يحكم بغير ما أنزل فهو قطعاً لا يستن بسنة النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يهتدى بهديه، وهو لا محالة مبدل لشرع الله بزيادة أو نقص، وهو بداهة مستحل لحرم الله، إن لم يكن بالقول الصريح والاعتقاد، فبالممارسة والعمل، وهو من ثم بالضرورة متسلط بالجبروت، يذل من أعز الله ويعز من أذل الله، وهو بذلك مستحق للعنة الله، ولعنة كل نبي مستجاب الدعوة كما ثبت عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ستة لعنتهم، لعنهم الله، وكل نبي مجاب: المكذب بقدر الله؛ والزائد في كتاب الله؛ والمتسلط بالجبروت يذل من أعز الله، ويعز من أذل الله؛ والمستحل لحرم الله؛ والمستحل من عترتي ما حرم الله؛ والتارك لسنتي»، حديث صحيح، أخرجه الحاكم وقال: (هذا حديث صحيح، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه)، وأخرجه الذهبي في «الكبائر»، وقال إسناده صحيح، وجاء من طرق حسان عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، رضوان الله وسلامه عليهم. وله متابعة في الطبراني عن عمرو بن سعواء اليافعي، رضي الله عنه، ولكنه زاد سابعاً: «والمستأثر بالفيء».
والرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصف الحاكم الذى لا يستن بسنته، ولا يهتدى بهديه بأنه ظالم وكاذب، فيحذر من تصديقه ومعاونته، لأن فى تصديقه ومعاونته إعانة له على ظلمه، جاء فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لكعب بن عجرة: «يا كعب بن عجرة ، أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال: وما أمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدى لا يهتدون بهديى ولا يستنون بسنتى فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منى ولست منهم ولا يردون على حوضى، ومن ثم لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك منى وأنا منهم وسيردون على حوضى ...»، فالحاكم الذى يصفه الرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه كاذب وظالم، ويتبرأ منه، ويصف من يشترى نفسه من هذا الحاكم بأنه معتق لها من النار، ومن يبع نفسه له بأنه مهلكها بالعذاب، مثل هذا الحاكم لا تجوز موالاته، فضلا عن أنه لا يجوز السكوت عليه.
وقد رُوِى أن الله سبحانه وتعالى أوصى إلى نبى من أنبيائه، أن قل لفلان الزاهد: «أمّا زهدك فى الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إلىّ، فقد اكتسبت به العز! ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ قال: يارب وأي شىء لك علىّ؟ قال: هل واليت فى ولياً، أو عاديت فى عدوا؟».
فكيف يستحل بعض من يشار إليه بالبنان من علماء المسلمين، مثل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، أن يقول عن الحاكم: (... وهبه كان كافراً، فلم إيغار الصدور عليه؟!) مما دفع العديد من شباب الدعوة الإسلامية، وصغار طلاب العلم إلى المطالبة بالتدليل، مفصلاً، على جواز ايغار القلوب على الحاكم الكافر، او الظالم، او الحاكم بغير ماانزل الله، ودعوة الناس الى عدم الركون اليه، وترك نصرته، واعتزاله!! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
لقد كنا نحسب أن بغض الكفر والفسوق والعصيان والتنفير منها من المعلوم من الدين بالضرورة، حيث دل القرآن والسنة المتواترة على ذلك. أما القرآن ففي مثل قوله تعالى: {..وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان، وأولئك هم الراشدون}، وقوله: {.. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، فتمسكم النار، ومالكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون}. وكذلك الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ورد بعضها آنفاً. هذا في حق كل أحد فردا كان، أو جماعة، أو سلطة عامة. بل إن السلطة العامة، أي الحاكم، أولى بذلك، لأن انحرافه مؤذن بانحراف المجتمع، ففساده، ثم دماره بكامله.
ولعل هناك شبهة لدى البعض بسبب ورود الأحاديث المانعه من الخروج المسلح والمنابذة بالسيف الاّ في حالة «الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان»، أو «مااقاموا فيكم الصلاة»، أو «ما صلوا» ونحوه، فظنوا ان الأمر إنما هو:
(1) خروج مسلح ومنابذة بالسيف للحاكم،
(2) أومحبته ونصرته وثناء عليه باللسان ودعاء له على المنابر،
لا ثالث لهما، ولا مرتبه، بل مراتب كثيرة بينها منها:
ــ وهو أولها: الإنكار بالقلب، وبغض ظلم الظالمين وكراهية أفعالهم، مع الدعاء إلى الله، والتضرع بين يديه، أن يصلحهم أو يبدلهم بمن تصلح به أحوال البلاد والعباد، وتتحقق مصالح المعاش والمعاد، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل!
ــ ثم ثانياً: الكلام والنصح والنقد سراً عند الخاصة من أهل الرأي وأهل السلطان والمنعة والشوكة، وفي الجلسات المغلقة، ونحوه.
ــ ثم ثالثاً: الكلام والنقد والإنكار في دوائر العلماء والأدباء والمفكرين، والندوات الفكرية، والديوانيَّات، ومؤتمرات المتخصصين والعلماء، وما أشبه ذلك.
ــ ثم رابعاً: الإنكار والنقد جهراً على رؤوس الأشهاد ومن جميع المنابر، وعقد المؤتمرات الجماهيرية، وتسيير المظاهرات الحاشدة، واستخدام وسائل الصحافة والطباعة، والشبكات الإلكترونية، وأشرطة التسجيل الصوتي والمرئي،...، وهكذا، وهكذا!
وساعد فقهاء السلاطين، اخزاهم الله، على اشاعة هذا الوهم الخبيث فباعوا دينهم بدنياهم، بل بدنيا غيرهم، وسقطوا في هاوية الجريمة الكبرى: جريمة كتمان ما انزل الله من البينات والهدى، فاستحق اكثرهم بذلك لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، بل ولعنة جميع اللاعنين!