3
مشروعية المحاسبة
إن المهمة الأساسية للحاكم، هي رعاية شؤون الأمة، لأنه ما نصب إلا لذلك، فإذا قصر في هذه الرعاية، وجبت محاسبته، فالشرع جعل المسلمين الحق في محاسبة الحاكم، وجعل المحاسبة على المسلمين فرض كفاية، فالأمة قوامة عليه، يلزمها الانكار على ما يقصر به في مسؤولياته، أو يسيئ في تصرفاته.
* فقد قال الله، تبارك وتعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة، 2:143)،
* كما قال: {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط} (المائدة، 5:
، كما قال: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ،شهداء لله، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} (النساء، 4:135).
فكيف تكون الأمة شهيدة على الناس إذا لم تكن قوامة لله، شاهدة بالقسط على نفسها؟ وذلك يقتضي، ضرورة، ليس فحسب الشهادة على كل فرد من أفرادها، بل كذلك الشهادة على الجماعة، بوصفها جماعة، وعلى الحكام، ومحاسبتهم، والقوامة عليهم بالقسط.
* كما ثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برىء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا». هذا حديث صحيح رواه مسلم، وفي لفظ له: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة».
* كما رواه أبو داود أيضاً عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر بلسانه فقد برئ، ومن كره بقلبه فقد سلم، ولكن من رضي وتابع». فقيل: يارسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا»، رواه أبو داود بإسناد صحيح. أي من عرف المنكر فليغيره، ومن لم يقدر على تغييره فأنكر ذلك بقلبه فقد سلم. فالمسلمون جميعاً، يجب عليهم أن يحاسبوا الحاكم للتغيير عليه، ويكونون آثمين إذا رضوا بأعمال الحاكم التي تنكر، وتابعوه عليها.
وكون الأمة تحاسب الحاكم، لا يناقض وجوب طاعته، لأن طاعة الحاكم إنما هي في المعروف، فإذا خرج الحاكم عن حدود الشرع فلا طاعة له، بل إن الأمة تعصي الله تعالى إن فعلت ذلك، لأنه: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وقد بلغ الإسلام الذروة في محاسبة الحاكم والإنكار علىه، لدرجة أنه عدَّ من يموت بسبب محاسبة الحاكم شهيداً، بل من أفضل الشهداء، ودعا إلى مقاومتهم بالوسائل المادية، والقوة المسلحة، إذا أظهروا الكفر البواح:
* فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: «أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»، وفي رواية: «وأن نقول الحق حيثما كنا لانخاف في الله لومة لائم» وهذا حديث صحيح، من أصح أحاديث الدنيا، متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد.
فالإسلام قد حث المسلمين على مقاومة الطغيان، وهذا حق المسلمين، لا يجوز منعهم منه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»، حديث غاية في الصحة، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو أمر بالأخذ على يد كل ظالم، وردعه، ومنعه من ظلمه، ولا شك أن أفظع المظالم، وأكبرها، وأضرها على الأمة بمجموعها، وعلى كل فرد من أفرادها: مظالم الحكام، لأنها تفسد الحياة العامة، وتزلزل استقرار المجتمع، وتؤدي إلى الفتنة والشر، وفساد ذات البين، ثم إلى الفوضى والاضطراب، وسفك الدماء، وهذا هو خراب الدنيا، وضياع الدين: هذا هو الواقع المحسوس في الماضي والحاضر. فالأمة تستقيم للحكام ما استقاموا لها، فإذا لم يفعلوا، أي إن لم يستقم الحكام، فالشرع يطالب المسلمين بمعصيتهم، وعدم طاعتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أمر بمعصية: فلا سمع ولا طاعة».